فصل: تفسير الآيات (6- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 13):

{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)}
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما انطوت سورة الحاقة على أشد وعيد وأعظمه أتبعت بجواب من استبطأ ذلك واستبعده إذ هو مما يلجأ إليه المعاند الممتحن، فقال تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} [المعارج: 1] إلى قوله: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} [المعارج: 6 و7] ثم ذكر حالهم إذ ذاك {يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه} [المعارج: 11] الآية، ثم أتبع بأن ذلك لا يغني عنه ولا يفيده {إنها لظى} [المعارج: 15] ثم ختمت السورة بتأكيد الوعيد وأشد التهديد {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} [المعارج: 42] إلى قوله: {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} [المعارج: 44] ذلك يوم الحاقة ويوم القارعة- انتهى.
ولما كان كونه تعالى، بما تقدم في العظمة، أمراً معلوماً بما له من الآثار من هذا الكون وما فيه، وكان استبعادهم لما أخبر به أمراً واهياً ضعيفاً سفسافاً لا يكاد يصدق أن أحداً يحاول أن يرد به هذه الأمور التي هي في وضوحها كالشمس لا خفاء بها أصلاً ولا لبس قال مؤكداً: {إنهم} أي الكفار المكذبين المستعجلين {يرونه} أي ذلك اليوم الطويل أو عذابه {بعيداً} أي زمن وقوعه، لأنهم يرونه غير ممكن أو يفعلون أفعال من يستبعده {ونراه} لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين {قريباً} سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان، فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة، وكل آت قريب والبعيد والقريب عندنا على حد سواء.
ولما ذكر عن هذا اليوم ما يبعث على السؤال عنه، استأنف بيانه مبيناً عظمته فقال: {يوم} أي يقع حين {تكون السماء} أي التي هي أوثق ما تراه وأصلبه من عظم ما يقع فيه من الأهوال {كالمهل} أي الشيء المذاب من المعادن في مهل أو دردي الزيت {وتكون الجبال} التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها {كالعهن} أي الصوف المصبوغ ألواناً المنقوش، تطيره الريح كالهباء، وذلك لأن الجبال في أصلها متلونة كما قال تعالى: {ومن الجبال جدد وبيض وحمر} [فاطر: 27] الآية، قال البغوي: ولا يقال عهن إلا للمصبوغ، قال: وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً- انتهى. {ولا يسأل} من شدة الأهوال {حميم حميماً} أي قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشف لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً، وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب لما كشف الابتلاء عن أنه لا عز إلا بالتقوى- هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وعلى قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول المعنى أنه لا يطالب أحد بأحد كما بعض الحكام في الدنيا من أنه يلزم أقارب من قربه لأنه لا حاجة له بذلك، لأن القدرة محيطة بالكل على حد سواء.
ولما كان عدم السؤال قد يكون لعدم رؤية بعضهم بعضاً لكثرة الجمع وشدة الزحام وتفرق الناس فيه على حسب مراتب أعمالهم، استأنف الجواب لمن كأنه يقول: لعل ذلك يترك لعدم رؤيتهم لهم؟ فقال دالاً بالمجهول والتفعيل على عظمة ذلك التبصير وخروجه عن العادة جامعاً لأن المقصود من الحميم الجنس والجمع أدل على عموم التبصير، قال البغوي: وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس- انتهى، وكان حكمة ذلك أنه أدل على تقطع الأسباب فلا يسأل أحد منهم الآخر عن شيء من أمره لاشتغال كل بنفسه، فعدم السؤال لا للخفاء بل للاشتغال وهم كل إنسان بما عنده: {يبصرونهم} أي يبصرهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه ويفر كل من الآخر لشغله بنفسه، ولما تناهى الإخبار بعظمة ذلك اليوم إلى حد لا تحتمله القلوب، ذكر نتيجة ذلك فقال مستأنفاً: {يود} أي يتمنى ويشتهي {المجرم} أي هذا النوع سواء كان كافراً أو مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه، وقيد به لأن المسلم الطائع يشفع فيمن أذن له فيه ولا يهمه شيء من ذلك، ودل على أن هذه الودادة مجرد تمن بقوله: {لو يفتدي} أي نفسه {من عذاب يومئذ} أي يوم إذ كانت هذه المخاوف بأعلق الناس بقلبه وأقربهم منه فضلاً عن أن يسأل عن أحواله.
ولما كان السياق للافتداء، بدأ بأعزهم في ذلك بخلاف ما يأتي في عبس فقال: {ببنيه} لشدة ما يرى.
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه لنصره والذب عنه، أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة وما الافتداء به لاسيما عند العرب من أقبح العار فقال: {وصاحبته} أي زوجته التي يلزمه الذب عنها والكون دائماً معها لكونها عديلة روحه في الدنيا.
ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة، أتبعها الشقيق الذي لا يلزم من الذب عنه ما يلزم من الذب عن الحريم وربما كان مبايناً، فقال: {وأخيه}.
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم فقال: {وفصيلته} أي عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه {التي تؤويه} أي تضمه إليها عند الشدائد وتحميه، لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها فهم أعظم الناس حقاً عليه وأعزهم لديه.

.تفسير الآيات (14- 21):

{وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}
ولما كانت هذه الآية في الفدية، قدم الأبعد عن ذلك فالأبعد من جهة النفع والمعرة. ولما كانت آية عبس في الفرار والنفرة، قدم الألصق فالألصق، والأعلق في الأنس فالأعلق.
ولما خص هنا عم فقال: {ومن في الأرض} أي من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولابد في كل حال منه أو لا. ولما كان ربما خص ذلك بغيره، قال محققاً لإرادة الحقيقة في معنى من: {جميعاً}.
ولما كان الإنسان تكشف له الأمور هناك أي كشف، وتظهر له أتم ظهور، قال تعالى: {فبصرك اليوم حديد} فيعلم أنه لا ينجيه من الخطايا المحيطة المحبطة شيء، دل على الاستبعاد بأداة البعد فقال عاطفاً على {يفتدي}: {ثم ينجيه} أي ثم يود لو يكون له بذلك نجاة تتجدد له في وقت من الأوقات.
ولما كان هذا مما قد يطمع في النجاة، فإن بعض الناس يطبع على قلبه فيستغويه الأطماع حتى يعد المحال ممكناً، قال معبراً بمجمع الروادع والزواجر الصوادع: {كلا} أي ليكن للمجرم ردع أيّ ردع عن وداده هذا وترتب أثره عليه، فإن ذلك لا يكون أبداً بوجه من الوجوه.
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر في المهيع الذي هو فيه، لأن ذلك إشارة إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب أصلاً لما للمقام عليه من عظيم الدلالة، قال بعد هذا الردع العظيم عن النجاة بل عن ودادة تمنيها: {إنها} أي النار التي هي سوط الملك المعد لمن عصاه، المهدد في هذا السياق بعذابها، المستولية عليه لتكونه سجنه: {لظى} أي ذات اللهب الخالص المتناهي في الحر يتلظى أي يتوقد فيأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل ما وجدته كائناً ما كان {نزاعة للشوى} أي هي شديدة النزع لجلود الرؤوس بليغته فما الظن بغيره من الجلد، وقال في القاموس: الشوى: اليدان والرجلان والأطراف وقحف الرأس وما كان غير مقتل- انتهى، وقيل: والجلد كله واللحم تنزع ذلك ثم يعود كما كان في الحال ليروا التعب الذي كانوا ينكرونه في أنفسهم في كل لحظة.
ولما كان الخلاص غير ممكن من الداعي القادر على الإحضار كنى عن إحضارها إياهم وجذبها لهم بقوله: {تدعوا} ويجوز أن يكون ذلك حقيقة فتقول في الدعاء في نفسها: إليّ يا مشرك إليّ يا منافق، ونحو ذلك ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب {من} أي كل شخص {أدبر} أي من الجن والإنس أي من وقع منه إدبارهما من حقه الإقبال عليه سواء كان ذلك الإدبار عنها أو عن الأعمال التي من شأنها التنجية منها، ولما كان الإدبار قد يكون عن طبع غالب فيكون صاحبه في عداد من يعذر، بين أن الأمر ليس كذلك فقال: {وتولى} أي كلف فطرته الأول المستقيمة الإعراض عن أسباب النجاة.
ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على إحداهما دالاً على الإعراض عن الأخرى، قال دالاً على إدباره بقلبه: {وجمع} أي كل ما كان منسوباً إلى الدنيا.
ولما كانت العادة جارية بأن من كانت الدنيا أكبر همه كان همه بجمعه الاكتناز لا الإنفاق، سبب عن جمعه قوله: {فأوعى} أي جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول أمل ولم يعط حق الله فيه، فكان همه الإيعاء لا إعطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة.
ولما كان من أعجب العجب أن يقبل على الدنيا أحد يسمع هذا التهديد بالعرض بين يدي الله والعقاب لمن لم يقبل على عبادته سبحانه، بين أن ذلك لما جبله عليه سبحانه وأن الإنسان مقهور مع جبلته إلا من حفظه الله، وذلك دال من كلا الطرفين على عظيم قدرته سبحانه، قال مؤكداً لاقتضاء المقام للتأكيد لأن الإنسان لو خوف بالعرض على بعض الأمراء ما لابس ما يغضبه فكيف بالعزيز الحكيم القدير العليم: {إن الإنسان} أي هذا الجنس، عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولذنبه.
ولما دعا الحال إلى بيان الجبلة الداعية إلى ما يقتضيه باختيار صاحبها على وجه كأنه إلجاء بياناً لسهولة الأمور عليه سبحانه بنى للمفعول قوله: {خلق هلوعاً} أي جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والرغبة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الحريص على ما لا يحل له، وروي عنه أن تفسيره ما بعده.
ولما كان الهلع شدة الحرص وقلة الصبر، نشر معناه فقال مقدماً المعمول الذي هو الظرف على العامل بياناً لإسراعه في ذلك: {إذا مسه} أي أدنى مس {الشر} أي هذا الجنس وهو ما تطاير شرره من الضر {جزوعاً} أي عظيم الجزع، وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقد نصفين ويتفتت {وإذا مسه} أي كذلك {الخير} أي هذا الجنس وهو ما يلائمة فيعينه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق {منوعاً} أي مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة، وهذا الوصف ضد الإيمان، لأنه نصفان: صبر وشكر.

.تفسير الآيات (22- 29):

{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)}
ولما كان التقدير: فهو يسارع في آثار ما جبل عليه ما يترتب على الجزع مما لا يجوز في الشرع ومما يترتب على المنع من ذلك أيضاً فيكون من أهل النار، وكان من القدرة البالغة أن يحفظ سبحانه من أراد من الخزي مع جبلته ويحمله على كسر نفسه مرة بعد أخرى حتى يتلاشى ما عنده من جبلة الشر وتبقى الروح على حالها عند الفطرة الأولى، فلا تزال تحثه على المبادرة إلى طاعته سبحانه وتعالى وحفظ حدوده، فكان لا كرامة أعظم من حفظ المكلف لحدود الشرع مع المنافاة لطبعه، فيكون جامعاً للإيمان بنصفيه: الصبر والشكر، لما جمع من هذه الأوصاف الثمان المعادة لأبواب الجنة الثمان، فكان أسباباً لها، استثنى من هذا النوع الهلوع ولذلك جمع فقال: {إلا المصلين} أي المحافظين على الصلاة التي هي مواطن الافتقار، العريقين في هذا الوصف، فإنه لا يشتد هلعهم فلا يشتد جزعهم ولا منعهم، فيكونوا في أحسن تقويم معتدلين مسارعين فيما يرضي الرب، لأنه سبحانه قرن بما جبلهم عليه من الهلع من طهارة الجسد لطهارة طينته وزكاء روحه ما هيأه لتهذيب نفسه مما يسره له من أصدقاء الخير وأولياء المعروف وسماع المواعظ الحسان والإبعاد عن معادن الدنس من البقاع والأقران والكلام والأفعال وغير ذلك من سائر الأحوال، والملابسة بكل ما يحمل على المعالي من صالح الخلال حتى كانوا من أهل الكمال، ولذلك وصفهم بما يبين عراقتهم في الوصف لها فقال: {الذين هم} أي بكلية ضمائرهم وظواهرهم {على صلاتهم} أي التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم- بما أفادته الإضافة، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله: {دائمون} أي لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها بل يلازمونها ملازمة يحكم بسببها أنها في حال الفراغ منه نصب أعينهم بدوام الذكر لها والتهيؤ لأدائها لأنها صلتهم بمعبودهم الذي لا خير عندهم إلا منه، فلم يكونوا ناسين لمساوئهم ولا آسين بمحاسنهم، وكفى بالصلاة بركة في دلالتها على النجاة من هذا الوصف الموجب لأسباب النار، وهي عبادة ذات شروط وأركان وأبعاض وهيئات وسنن وآداب مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وهي منقسمة إلى ذات ركوع وسجود، وإلى ذات سجود بلا ركوع كسجدة الشكر والتلاوة، وإلى ما لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة.
ولما ذكر زكاة الروح، أتعبه زكاة عديلها المال، فقال مبيناً للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو: {والذين في أموالهم} أي التي منَّ سبحانه بها عليهم {حق} ولما كان السياق هنا لأعم من المحسنين الذين تقدموا في الذاريات اقتصر على الفرض فقال: {معلوم} أي من الزكوات وجميع النفقات الواجبة.
ولما كان في السؤال من بذل الوجه وكسر النفس ما يوجب الرقة مع وقاية النفس مع المذمة، قدم قوله: {للسائل} أي المتكلف لسؤال الإنفاق المتكفف. ولما كان في الناس من شرفت همته وعلت رتبته على مهاوي الابتذال بذل السؤال من الإقلال بذب المقبل على الله للتفطن والتوسم لأولئك فقال: {والمحروم} أي المتعفف الذي لا يسأل فيظن غنياً ولا مال له يغنيه فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وإسراره إلا إلى إفاضة مدامعه بذله وانكساره، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا وأشباهه قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سود عند غسله كأنها السيور، فعجبوا منها، فلما كان بعد أيام قال نسوة أرامل: كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء وأجربة الدقيق على ظهره ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه حتى يعلم إلى أين يقصد، فلم يزل رضي الله عنه حتى جاء إلى بيت نسوة أرامل فقال: أعندكن ماء وإلا أملأ لكن، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهن، والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة شهيرة جداً.
ولما كان المال قد يصرف لإصلاح الدنيا، بين أن النافع منه إنما هو المصدق للإيمان فقال: {والذين يصدقون} أي يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجددونه كل وقت {بيوم} ولما كان المقصود الحث على العمل لأجل العرض على الملك الأعلى عبر بقوله: {الدين} أي الجزاء الذي ما مثله وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه والدينونة على النقير والقطمير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعملون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدقون بمجرد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال.
ولما كان الدين معناه الجزاء من الثواب والعقاب، وكان ربما صرفه صارف إلى الثواب فقط للعلم بعموم رحمته سبحانه، وأن رحمته غلبت غضبه، صرح بالعقاب فقال: {والذين هم} أي بجميع ضمائرهم {من عذاب ربهم} أي المحسن إليهم، لا من عذاب غيره، فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه، وإذا خيف مع تجليه في مقام الإحسان كان الخوف أولى عند اعتلائه في نعوت الجلال من الكبر والقهر والانتقام {مشفقون} أي خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يغفلون ولا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.
ولما كان المقام للترهيب، ولذلك عبر عن الرجاء على فعل الطاعات بالدين، فصار العذاب مذكوراً مرتين تلويحاً وتصريحاً، زاده تأكيداً بقوله اعتراضاً مؤكداً لما لهم من إنكاره: {إن عذاب ربهم} أي الذي رباهم وهم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان {غير مأمون} أي لا ينبغي لأحد أن يأمنه، بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما يشاء- ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء.
ولما ذكر التحلي بتطهير النفس بالصلاة وتزكية المال بالصدقة، ندب إلى التخلي عن أمر جامع بين تدنيس المال والنفس وهو الزنا الحامل عليه شهوة الفرج التي هي أعظم الشهوات حملاً للنفس على المهلكات، فقال بعد ذكر التخويف بالعذاب إعلاماً بأنه أسرع إلى صاحب هذه القادورة وقوعاً من الذباب في أحلى الشراب فقال: {والذين هم} أي ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم {لفروجهم} أي سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً {حافظون} أي حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله عنه.